فصل: تفسير الآية رقم (79):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (79):

{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)}
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله} تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه، وقيل: تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه السلام. وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنية» فأنزل الله تعالى الآية. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلًا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم قال: «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال: ما كان لبشر» إلخ، والمعنى ما يصح، وقيل: ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذانًا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام.
والجار خبر مقدم لكان والمنسبك من {ءانٍ} والفعل بعد اسمها ولابد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرًا من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن بثم تعظيمًا لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلًا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم عنى الحكمة، وقد تقدم معناها، والعباد جمع عبد قال القاضي: وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدًا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال: هؤلاء عبيد زيد ولا يقال: عباده، والظرف الذي بعده متعلق حذوف وقع صفة له أي عبادًا كائنين لي و{مِن دُونِ الله} متعلق بلفظ {عِبَادًا} لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالًا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكًا وإفرادًا كما قال الجبائي فإن التجاوز متحقق فيهما حتمًا، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى.
{ولكن كُونُواْ ربانيين} إثبات لما نفى سابقًا، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل: ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب أيضًا عطفًا عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل: يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك ولكن كونوا ربانيين وفسر علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس الرباني بالفقيه العالم، وقتادة والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحليم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس وهي أقوال متقاربة وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح. وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه، وهو منسوب إلى الرب كإلهي والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرًا كلحياني لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني عنى غليظ الرقبة، وقيل: إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان عنى مربي.
{ا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} الباء السببية متعلقة بكونوا أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل: متعلقة بربانيين لأن فيه معنى الفعل، وقيل: حذوف وقع صفة له والدراسة التكرار يقال: درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير {ا كُنتُمْ} للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر كان مضارعًا بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول: لرؤسائهم، والثاني: لمن دونهم، وقيل: لأن متعلق التعليم الكتاب عنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه وفيه بعد بعيد وإن أشعر به كلام بعض السلف. وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب وأبو عمرو ومجاهد {تَعْلَمُونَ} عنى عالمين، وقرئ {تَدْرُسُونَ} بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس عناه، ومجيء أفعل عنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضًا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس.

.تفسير الآية رقم (80):

{وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)}
{وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا} قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب ولا يأمركم بالنصب عطفًا على {يِقُولُ} [آل عمران: 79]، {وَلاَ} إما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادًا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا فهو كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناءًا على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام فلما قيل له: أنتخذك ربًا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيًا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصًا يقول له: ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي وعلى هذا يكون المقصود من عدم الأمر النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل: والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة {وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ} ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر عنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على {لَكِنِ} وكذا الحالية أيضًا.
وقرئ بإسكان الراء فرارًا من توالي الحركات وعلى سائر القراآت ضمير الفاعل عائد على بشر وجوز عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضًا في قوله تعالى: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عامًا {بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك؟» بناءًا على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاءًا للعنان واستدراجًا، والقول بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة في غاية السقوط كما لا يخفى.

.تفسير الآية رقم (81):

{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)}
{وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت ذلك واختار السمين كونه معمولًا لأقررتم الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب {ءأَقْرَرْتُمْ} بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملئكة} [آل عمران: 42] كما نقله الطبرسي بعيد. واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيًا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية، وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرءون {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم} إلخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين} خطأ من الكتاب وأن الآية كما قرأ عبد الله وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه في «الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية» وقيل: المراد أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه؛ وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها وهي قراءة أبيّ بن كعب أيضًا، وقيل: المراد وإذ أخذ الله ميثاقًا مثل ميثاق النبيين أي ميثاقًا غليظًا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفسه ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكمًا لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟ا وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدًا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل بعد لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: {لَمَا ءاتَيْتُكُم} إلخ ولا يخفى أن هذا أيضًا من البعد كان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان كما عليه البعض ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حيًا بين أظهركم ماحل له إلا أن يتبعني» وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم.
وهذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابًا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول: قال غير واحد: اللام في {لَمَا ءاتَيْتُكُم} على قراءة الفتح والتخفيف وهي قراءة الجمهور موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه عنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب: بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء إن وغيرها لكنها غلبت في إن بعد تقدم القسم لفظًا أو تقديرًا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك ولو قلت: أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب وخالفه الفراء فيه فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور وخالف فيه بعض النحاة، قال: يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقًا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود: إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلبًا غلطه فيه فالمسألة خلافية، وما شرطية في موضع نصب بآتيت والمفعول الثاني ضمير المخاطب، و{مِنْ} بيان لما واعترض بأن حمل {مِنْ} على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية فيحتاج إلى النقل، ومثل ذلك القول بزيادتها لأن زيادتها بعد الموصولة أيضًا كزيادتها بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي «جني الداني».
ومن الناس من قال: إن من تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي: يجوز أن تكون من تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، و{لَتُؤْمِنُنَّ} جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادًا مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول: لا محل له، والثاني: له محل، والقول بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة كما مر وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر إما مقدر أو جملة {لَتُؤْمِنُنَّ} مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في {بِهِ} إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخد الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقًا دفعًا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو عنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير {بِهِ} راجعًا للرسول مع ملاحظة {مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ} القائم مقام الضمير العائد على ما اكتفى جرد ذلك عن ضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في «الروض الأنف»، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال لأن آتيناكم، وجاءكم إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد بما آتيناكم القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وا معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقًا للقرآن وهو لازم على ذلك التقدير وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجيء إذا ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضيًا.
والثاني: مستقبلًا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظًا، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ ثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفًا أي جاءكم به مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته؛ والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضًا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن هلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقًا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر.
وقرأ حمزة لما آتيتكم بكسر اللام على أن ما مصدرية واللام جارّة أجلية متعلقة بلتؤمنن أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفًا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسمًا للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف، وجوز أن تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضًا، والجار متعلق بأخذ وروى عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ لما آتيتكم بالتشديد، وفيها احتمالان: الأول: أن تكون ظرفية عنى حين كما قاله الجمهور خلافًا لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم كما ذهب إليه الزمخشري أي لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق وكذا وقع في تفسير الزجاج، ومآل معناها التعليل، الثاني: أن أصلها من ما فأبدلت النون ميمًا لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلًا وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في البحر.
وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، و{مِنْ} إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل: وهو الأصح لاتضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف واللام إما زائدة، أو موطئة بناءًا على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع آتيناكم على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون آتيتكم على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة فافهم ذاك فبعيد أن تظفر ثله يداك.
{قَالَ} أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد {ءأَقْرَرْتُمْ} بذلك المذكور {وَأَخَذْتُمْ} أي قبلتم على حدّ {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ} [المائدة: 41]. وقيل: معناه هل أخذتم {على ذلكم إِصْرِى} على الأمم. والإصر بكسر الهمزة كما قال ابن عباس، وأصله من الإصار وهو ما يعقد به ويشد وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشدّ به، وقرئ بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر في قولهم ناقة عبر أسفار أو هم بالضم جمع إصار استعير للعهد، وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر، أو للمبالغة {قَالُواْ} استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل: قالوا: {أَقْرَرْنَا}، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاءًا بالأول {قَالَ} أي الله تعالى لهم {فَأَشْهِدُواْ} أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار، فاعتبر المقر بعضًا، والشاهد بعضًا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد، وقيل: الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم ونسب ذلك إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه، وقيل: للملائكة فكيون ذلك كناية عن غير مذكور ونسب إلى سعيد بن المسيب {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين} أي على إقراركم وتشاهدكم على ما يقتضيه المعنى لأنه لابد في الشهادة من مشهود عليه. وهنا ما ذكرناه للمقام. وعن ابن عباس أن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم. وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم، والجار والمجرور خبر أنا و{مَّعَكُمْ} حال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير {فَأَشْهِدُواْ}.